معركة القادسية - د.صالح العطوان الحيالي
-----------------------------------
بلاغة الكلام وقوة الايمان سلاح المسلمين في مفاوضاتهم " المفاوضات بين المسلمين والفرس في " بعث سعْد بن أبي وقاص إلى ملك الفرس يزدجرد وفدًا يدعونه إلى الإسلام، سار الوفد الإسلامي من القادسية، فاجتاز مدينة ساباط جنوب غربي المدائن. وصل الوفد إلى المدائن فالْتقى بقادة الفُرْس، وتحدَّث إليهم، فعَرَض عليهم الإسلام ودعاهم إليه، تحدَّث النعمان بن مقرن المزني أحد رجال الوفْد إلى يزدجرد، ودعاه إلى الإسلام بلين ولطف، وبيَّن له فضلَ الإسلام ورحمته بالناس، وعدلـه وإنصافه، فقال: فنحن ندعوكم إلى دِيننا، وهو دين حسَّـن الحَسَن، وقبَّح القُبْح كلَّه، فإن أجبتم إليه خلَّفْنا فيكم كتابَ الله، على أن تَحْكُموا بأحكامه، ونَرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فالمناجزة . اعتقد يزدجرد أنَّ حُسن أدب الوفد الإسلامي، وملاطفته في المناظرة دليلٌ على ضعْف المسلمين، فتطاول عليهم وأَخَذ يُذكِّرهم بحياتهم قبلَ الإسلام، وينعتهم بأنهم مِن أشْقَى الأمم، وأقلها عددًا، وأضعفها شأنًا، وأسوئها حالاً، فتصدَّى له المغيرة بن زرارة، فقال: يا هذا، إنك وصفْتَنا صِفةً لم تكن بها عالِمًا، فتحدَّث المغيرة عن حال العَرَب قبل دخولهم في الإسلام وما كانوا عليه، من ضلال وفُرْقة وذِلَّة، إلا أنَّ الله قد أبدلَ حالهم بالإسلام، فأصبحوا من أفضلِ الأمم عقيدةً، وأحسن الناس خُلقًا، تألَّفت قلوبهم، فاجتمعت كلمتُهم، واستقامتْ حالهم، وعزَّ جانبهم، ثم قال: إنَّ الله ورسوله أمَرنا أن ندعوَ مَن يلوننا من الأمم إلى الإسلام، فاخترْ إن شئت أن تُسلِمَ فتنجي نفسك، أو تُعطيَ الجزية عن يدٍ وأنت صاغِر، أو السيف، فقال يزدجرد: أتستقبلني بمثل هذا؟! قال: ما استقبلتُ إلاَّ مَن كلَّمني، ولو كلَّمني غيرُك ما استقبلتُك به، فغضب يزدجرد، وأخذتْه العِزَّة بالإثم، وكان سيِّئ الأدب، ضيقًا لجوجًا، لا يأخذ برأي ولا مشورة ، فأمر الوفد بالانصراف، وقال: لولا أنكم رسلٌ لقتلتُكم، ثم أمر بإحضار كيس من تُراب، فقال لرجاله: احملوه على أشْرف هؤلاء، فتسابق الوفدُ إلى حَمْله، وتفاءلوا به .سار رستم من النجف فعسكر على نهر العتيق قُبالةَ جند المسلمين، فلمَّا استقرَّ في القادسية واطمأنَّ بها، أرسل إلى سعد بن أبي وقاص يَطلب أن يرسل إليه وفدًا يُفاوضه ويناظره، فأرسل إليه سعدٌ عددًا من الرجال يناظرونه ويَدْعونه إلى الإسلام، ويوضِّحون له سببَ مجيء المسلمين إلى العراق، منهم: ربعي بن عامر، وغيره من دُهاة العرب، وذوي الرأي فيهم، وصل رِبعي بن عامر إلى رستم، فقال له: ما جاء بكم....؟ قال رِبعي: إنَّ الله ابتعَثَنا؛ لنُخرِجَ مَن شاء مِن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومِن ضِيق الدنيا إلى سعتها، ومِن جَوْر الأديان إلى عَدْل الإسلام، فأرسلَنا بدِينه إلى خَلْقه ندعوهم إليه، قال رستم: قد سمعتُ مقالتكم، فهل لكم أن تؤخِّروا هذا الأمر حتى ننظرَ فيه وتنظروا...؟ قال ربعي: نؤجِّلكم ثلاثةَ أيام، فانظرْ في أمرك وأمرهم، واخترْ واحدة من ثلاث: الإسلام، أو الجِزية، أو المناجزة . تتابعتْ رسلُ سعد بن أبي وقَّاص على رستم، وكانوا على نَسَق واحد في صِدْق المقالة، ووضوح العبارة، وبلوغ الهدف، فقد دَعَوُا القوم إلى الإسلام، وقالوا لهم: فوالله، لإسلامُكم أحبُّ إلينا من غنائمكم ، غير أنَّ رستم أراد مطاولةَ سعد في اللِّقاء، فأرسل إليه يطلب رسولاً آخر، فأرسل إليه سعدٌ المغيرةَ بن شُعْبة، فلمَّا وصل المغيرة تحدَّث إلى رستم مؤكِّدًا مقالة مَن سبقه مِن رسل المسلمين، فاعتقد رستم أنَّ المسألة يمكن أن تُسوَّى بالمال، فتصدَّى له المغيرةُ، وحسم المسألة بقولـه: إنَّ الله بعث إلينا نبيه "فسعِدْنا بإجابته واتباعه، وأمَرَنا بجهاد مَن خالف أمرَنا، وأخبرنا أنَّ مَن قُتِل منا على دينه فله الجنة، ومَن عاش مَلَك وظَهَر على مَن خالفه، ونحن ندعوك أن تؤمن بالله وبرسوله (ص) وتدخل في دِيننا، فإن فعلتَ كانتْ لكم بلادكم، ولا يدخل عليكم فيها أحدٌ إلاَّ مَن أحببتم، وإن أبيتَ ذلك، فالجزية عن يَدٍ وأنت صاغِر، وإن أبيت فالسيف بيننا وبينكم، والإسلامُ أحبُّ إلينا منهما، فاستشاط رستم غضبًا، وقال: لا صُلح بيننا وبينكم" ، فأصبح اللِّقاءُ العسكريُّ بين المسلمين والفرس أمرًا لا مفرَّ منه ...