- عالم الزقاق في روايات نجيب محفوظ –
لم تكن أولاد حارتنا أول روايات نجيب محفوظ التي يتحدث فيها عن عالم الزقاق بكل تفاصيله ، بل سبقتها زقاق المدق وخان الخليلي في حقبة الأربعينيات والثلاثية في حقبة الخمسينيات ، تلتها بعد ذلك حكايات حارتنا والحرافيش وغيرها من الروايات في حقبة السبعينات والثمانينات . ان شخصيات هذه الروايات هي شخصيات شعبية تستمد وجودها من عالم الزقاق الذي ترعرعت فيه وتنفست عبقه ، وليس زقاق المدق وبين القصرين وقصر الشوق والسكرية الا أزقة من أحياء القاهرة كانت تنبض بالحياة في تلك السنوات التي خلت وقبل التغييرات التي فرضتها حضارة العصر وما رافقها من كثافة سكانية وعمران امتد بمساحات عمودية وأفقية ، فلم يعد للزقاق بمفهومه التقليدي الأثر الذي يمكن أن نستدل عليه ، فقد اختفى من حياتنا سواء في مصر أو في العراق أو في أقطار عربية أخرى واختفت معه قيم وتقاليد كانت لها أصالتها وجذورها في أجيال سابقة . ان عالم الزقاق الذي يتحدث عنه نجيب محفوظ عالم ممتع حقا ، وهو قد عايشه شخصيا في طفولته وصباه وشبابه سواء في الجمالية أو العباسية أو خان الخليلي ، قريبا من مسجد الحسين ومسجد السيدة زينب . وفي هذه الأجواء تبرز شخصيات الفتوات التي كان لها حضورها الفاعل على ساحة الزقاق وأهله ، فالفتوة له سلطته التي يفرضها على الزقاق بما فيها من ظلم وتجبر ، غير أن العدل يأخذ مجراه آخر المطاف . تتبين هذه الصورة جلية واضحة في رواية أولاد حارتنا اذ يحتدم الصراع بين الفتوات من جهة وخصومهم الذين وقع عليهم الغبن والاجحاف من جهة أخرى ، يقودهم ممن تتوسم فيه الشجاعة والأمانة . وقد استمد نجيب محفوظ هذه الوقائع من سيرة الأنبياء ( موسى وعيسى ومحمد ) وهم من حملوا رسالة التوحيد الى أقوامهم في حرب شرسة مع الشرك والظلم والعبودية ، فهذا النبي موسى يقف متحديا لفرعون الذي اغتر وتكبر ونصب نفسه الها ، ولم يزل موسى يقارع فرعون حتى نصره الله وأغرق فرعون في البحر ، أما النبي عيسى فقد لبث في بني اسرائيل زمنا يريد أن يهديهم الى الحق وهم له كارهون حتى تآمروا عليه آخر الأمر يريدون تسليمه الى الرومان فرفعه الله اليه وصلب من شبه به في أعينهم ، أما النبي محمد فقد آذاه قومه من قريش الأذى كله الا أنه صبر وجاهد حتى قيض له أن يمحو الوثنية ويرفع راية الاسلام . وقد شهد الزقاق في أولاد حارتنا أحداثا ساخنة وصراعات مريرة بين الحق والباطل حتى اذا ضاقت الأمور واستفحلت ظهر المنقذ ليطهر الأرض من براثن الأدران . أما زقاق المدق فالشخصيات فيه تتقاذفها أهواء ورغبات فيها صدى شديد الوطأة على النفوس ، فهذه حميدة تلعب اللعبة القاتلة لتطيح بعرش الحب الذي يكنه عباس لها لتخرج من عالم الزقاق الى دنيا جديدة عليها فيها لهو وعبث ورذيلة ، لقد خدعها أحد الشياطين لتستسلم بلا قيد أو شرط . ولعل أغرب ما في الزقاق هي شخصية صانع العاهات ، الحاذق في مهنته في تشويه الأجساد ليحمل أصحابها علامات فارقة في كونهم شحاذين بحق يستحقون عطف الناس ، علاوة على أن الزقاق يضم بين دفتيه أشخاص مسحوقين فيهم دراويش وأصحاب مهن شعبية . غير أنه في ( خان الخليلي ) تختلف الصورة اذ يبدو المشهد فيه نوع من الرومانسية في تلك العلاقة بين الرجل الكهل وبين الفتاة التي تجاوره في السكن ، هو من جانبه متردد لا يجرأ على البوح بمكنونات قلبه وهي تنتظر منه خطوة جريئة ولكن دون جدوى ، غير أن الأخ الذي يأتي متأخرا هو من يفوز بها دون أن يعرف أن أخاه مغرم بها ، ومع ذلك فالنهاية تأتي على غير توقع . والواقع أن عالم الزقاق في هذه الرواية تبدو ملامحه من وراء ستار ، ذلك لأن خان الخليلي يضم بين دفتيه أزقة متعددة وسط سوق تراثي يعج بالحرفيين ،ولم يكن يبدو من المشهد سوى الحجرة التي يعتكف بها الرجل الكهل وهو يطل من النافذة ليلقي النظرة على فتاته ، وليس سوى المقهى التي يرتادها علاوة على الطريق الذي يسلكه في غدوه وعودته من عمله في الوظيفة الحكومية . أما الثلاثية فهي نسيج لوحدها في عالم الزقاق ، ذلك لأن أحداثها احتوت بين القصرين وقصر الشوق والسكرية ، وهي بعد ذلك نقلة من جيل الى جيل مرورا بالأب وأبنائه وأحفاده . انه من الصعب أن نلم بالرواية بأجزائها الثلاثة أو أن نضع النقاط على حروفها ولكن السيد أحمد عبد الجواد هو بطلها المطلق ، هو هذا الرجل المستبد في أسرته الذي يهابه الجميع ، وهو خارج نطاق الدار يعبث كما يحلو له ، كما أنه هو من يقرر مستقبل أبنائه بما في ذلك اختيار الأزواج والزيجات لهم . وعلى أية حال فان ما يحمله الزقاق من صدى على الأحداث التي تزخر بها الرواية يترك نكهته الخاصة على الشخصيات الأساسية فيها مخلفة رائحة الماضي بجماله وتألقه وعذوبته في تلك الحقبة من الزمن من عشرينات القرن الماضي حتى أواخر الأربعينيات منه . والحق أن الثلاثية هي التي أهلت نجيب محفوظ لنيل جائزة نوبل . أما حكايات حارتنا فهي عودة جديدة للزقاق بعد توقف لعقدين من الزمن ، يستأنف فيها نجيب محفظ رحلته الى عالمه القديم الذي يبدو أنه حن اليه ليسترجع ذكرياته من الأيام السالفة ، انها حكايات وقصص فيها ألغاز وأسرار مع صراع مرير بين الحق والباطل والعدل والظلم والوفاء والخيانة . وتأتي الحرافيش في آخر المطاف في تكملة مسيرة الزقاق في ذلك العهد الغابر مع عذوبته وأنغامه الجميلة . والحرافيش هذه ملحمة تكون فيها سطوة الفتوات بغير حدود بحيث تتجاوز الأموال والحرمات حتى يضج الناس من هذه المظالم غير أنه ليست لهم حيلة في مقارعة هذا البغي حتى يأتي المنقذ بشجاعته وجرأته لينهي هذه المأساة ويرد الحقوق الى أصحابها . لقد نجح نجيب محفوظ في رسم معالم الزقاق في تلك الحقبة من الزمن ، بل كان بارعا في وصف تفاصيله دون أن تفوته شاردة أو واردة , وتلك لعمري مقدرة قد تكون حكرا لقلمه ، ذلك أنه لم يلج هذا الباب غيره من الأدباء بهذا العطاء وبهذه الرؤية الشاملة ، لا من قبل ولا من بعد ، انه فن الرواية الذي يحتويه نجيب محفوظ وكفى به من فن .